مقالات

عندما تُعامل السياسة بمنطق الدين

في عالمنا العربي كل الألوان صارت لونين: أبيض وأسود، وكل العلوم أصبحت علماً واحداً؛ أصبحنا نرى الكون من زاوية واحدة؛ هي زاوية الرغبة الذاتية.

في عالمنا العربي كل الألوان صارت لونين: أبيض وأسود، وكل العلوم أصبحت علماً واحداً؛ أصبحنا نرى الكون من زاوية واحدة؛ هي زاوية الرغبة الذاتية.

فكل الحقائق سراب إلا تلك التي تعبر عن رغباتنا؛ نرى الحقيقة المادية الواحدة حقائق متناقضة طبقا لرغباتنا وموقفنا منها، على الرغم من أن العالم يجمع على أنها غير ذلك.

يقولون إننا شعوب متدينة بطبيعتها، وقد يكون لذلك بعض المصداقية، ولكن الواقع أننا ابتلعنا الدين، فصرنا أنصاف آلهة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، هذا التماهي في الدين بعقلية برجماتية توظف الدين للدينا، وتستخدم كل مكونات الدين، وكل مظاهر التدين لتحقيق المصالح الشخصية، أو الحزبية، أو الطائفية، ويكفي المرء أن يتابع القنوات القطرية والتركية، والقنوات الطائفية في العراق وغيرها ليعرف كم نحن العرب نستخدم الدين ولا نخدمه، ونوظفه بصورة انتهازية يخجل منها الملحدون وكفار قريش.

هذا النوع من التماهي البراغماتي الانتهازي في الدين صبغ العقل السياسي العربي بصبغة جعلته غير قادر على فهم متغيرات السياسة خارج ثنائيات: الحق والباطل، والشرعي وغير الشرعي، والصحيح والخطأ…باختصار شديد أصبح العقل السياسي العربي يتعامل مع كل ما يحيط به من متغيرات من زاوية من لا يوافق على رغباتي فهو: إرهابي، انقلابي، عميل، استبدادي، ظلامي، رجعي، متخلف….الخ.

في عالمنا العربي تستوي النخبة والجماهير، يستوي وزير الخارجية مع المواطن العادي كلاهما يفكر في السياسة بمنطق الأيديولوجيا أو علم اللاهوت، ويديرها بنفس المنطق، ويتخذ قراراتها كذلك، الجميع لا يستطيع أن يفصل بين الموقف السياسي الذي يتغير مع تغير الظروف والمعطيات والمتغيرات التي صنعت هذا الموقف؛ سواء أكانت داخلية أو خارجية، وبين الموقف المبدئي المتعلق بالمبادئ وقضايا الاعتقاد التي لا يجب أن تتغير مهما تغيرت المتغيرات وتغير الكون.

السياسة في الغرب هي فن الممكن، وفي تراثنا الإسلامي هي فن تحقيق مصلحة البشر، مصلحة الناس، مصلحة المجتمع الذي تُنفذ فيه هذه السياسة، يقول ابن عقيل الحنبلي “السياسة هي أي فعل يكون الناس معه أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد؛ وإن لم يرد فيه قرآن ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم”، وهنا نتأمل كلمات ابن عقيل رحمة الله عليه عندما يقول “أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد”، ولم يقل يكون الناس في حالة صلاح أو في الصلاح، وإنما أقرب لأن الفعل السياسي فعل نسبي، لا يعرف المطلقات، ولا يعرف الجزم أو القطع.

السياسة في عالمنا العربي لا تعرف المعنى الغربي ولا المعنى الإسلامي، فلا تعرف فن الممكن، ولا علم المصلحة، لأنها خرجت من علم السياسة إلى علم العقيدة أو علم اللاهوت، وبذلك دخلت في منطقة الصحيح المطلق والخطأ المطلق، دخلت في منطقة الخير المطلق أو الشر المطلق، دخلت في منطقة الحلال المطلق أو الحرام المطلق، فلم يعد هناك سياسة؛ بل أصبحنا في معركة عقائدية أيا كان أطرافها، وأيا كانت موضوعاتها.

فلننظر إلى اللغة السياسية لحركة حماس التي تصف كل فعل لا يحقق رؤيتها ولا يتسق مع مصالحها بأنه “خطيئة”؛ في حالة استدعاء فجة للمفاهيم العقائدية في المسيحية والإسلام، حيث الخطيئة مفهوم ارتبط بآدم عليه السلام ومعصية أمر الله سبحانه، وكأن من يعصي أمر حركة حماس هو في مقام آدم. حالة من الجمود والتحجر السياسي في قوالب مفاهيم عقائدية لا تصلح الا في قضايا الإيمان الكبرى، ولا يستخدمها الفقهاء في مسائل الشريعة حيث الشريعة لا تعرف مفهوم الخطيئة.

أظهرت التحولات السياسية الكبرى في العالم العربي في الفترة الأخيرة مدى بؤس هذه التيارات والتوجهات والحركات والأحزاب السياسية التي تتعامل مع السياسة بمنطق الدين، وكان آخرها قرارات المملكة المغربية الخاصة بالعلاقات مع إسرائيل … لمدة يومين لم يستطع الحزب الحاكم، وكل فعالياته أن يتخذ موقفا واضحا، بل إن موقعه الرسمي اختار نصف القرار وهو الجزء المتعلق بالصحراء، وتجاهل النصف الآخر المتعلق بإسرائيل، وعندما تحدث رئيس الوزراء المنتمي للحزب الحاكم ركز على نصف تصريح القصر المتعلق بدعم القضية الفلسطينية، وتجاهل النصف الآخر المتعلق بإسرائيل. حالة من الشلل الفكري أصابت الناشطين التابعين للتنظيم الفاشل في عموم الوطن العربي لان حكومة المغرب يقودها حزب ينتمي لتنظيم الإخوان.

نفس الشلل أصاب الناشطين في القنوات القطرية والتركية التي يتحكم فيها عناصر التنظيم الفاشل، صمتوا صمت القبور يومين حتى جاءهم التوجيه بأن يكون موقفهم عاما موحدا؛ وهو رفض التطبيع في المغرب والمشرق، وكنت أظنهم يقولوا المغارب والمشارق أو المغربين والمشرقين…كل ذلك حتى لا يوجهوا النقد لحكومة تابعة للتنظيم.

ولو أنهم فهموا منطق السياسة لأدركوا منذ البداية أن لكل دولة مبادئ ومصالح، وأن كل دولة تتمتع بحق السيادة المطلقة في قرارها، وأنه لا توجد قوة تستطيع أن تثنيها كما قررت قيادتها، وأن مصالح الدول لها الأولوية في الاهتمام والتنفيذ، وأن مواطني كل دولة هم فقط الذين لهم حق القبول والاعتراض، وأنه من العبث أن تعطي جماعة معينة لنفسها – بدون حق ولا حجة – سلطة الوصاية على الدول وشعوبها لتحدد لهم الخطأ أو الخطيئة من الصواب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى